المشهور أن أول مسجد في الاسلام هو مسجد قبا وهو المسجد الذي يقال له ( مسجد التقوى ) لقوله تعالى فيه :(لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ) فقد ذكر المؤرخون ان النبي الكريم صلّى الله عليه وسلم لما قدم المدينة مهاجرا من مكة كان وصوله إلى قبا في ظاهر المدينة يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول الموافق 24 أيلول 622م ٠ وقيل لثمان خلون من الشهر المذكور ، وقيل غير ذلك ، ونزل على كلثوم بن الهدم، وكان له بقبا مربد - وهو موضع يبسط فيه التمر لييبس - فأخذه منه وبناه مسجدا ٠ وكان مسجد قبا لا يتجاوز باحة مربعة صغيرة تحيط به جدران من الحجارة ويرتكز سقفه المصنوع من الجريد على جذوع النخل، والمسجد اليوم لا يزال محتفظا ببساطة بنائه وروعته، تعلو صحنه هذه الكتابة "من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قبا فصلى فيه ركعتين كان له كأجر عمرة".
مسجد المدينة المنورة
بعد ان مكث النبي (ص) في قبا أربعة أيام تسابق صناديد المدينة يدعونه. كل منهم يريد أن يكون محمد (ص) ضيفه ، وأن ينزل في داره . ولكنه ركب ناقته، وأرخى لها خطامها ثم قال : " إنما أنزل حيث ينزلني الله " ، فسارت الناقة به ما شاء الله حتى حطت وبركت ، فنزل عنها وسأل لمن هذا المربد ؟ فتقدم إليه معاذ بن عفراء فقال له : " يا رسول الله انه لسهيل وسهل ابني عمرو، وهما يتيمان في حضانتي سأرضيهما عنه ، فاتخذه مسجدا " ، فاشترى رسول الله (ص) المربد وأمر ان يبني في هذا المكان مسجده، وأن تبنی داره و منازل لأزواجه، وكانت كلها في الشق الأيسر من المسجد، وكان عدد هذه المنازل تسعة وقد شيدت كلها باللبن والطين.
لاحظ المخطط :
يترجم في بساطة بنائه بساطة الدين الإسلامي وتعاليمه . يذكر السمهودي في كتابه وفاء الوفا في اخبار دار المصطفى : انهم جعلوا أساس الجامع ثلاثة اذرع تقريبا على الأرض بالحجارة، تم بنوه باللبن ، وجعلت قبلته متجهة إلى بيت المقدس، وجعل له ثلاثة ابواب : باب في مؤخره ، وباب يقال له باب الرحمة ، وهو الباب الذي يدعى باب عاتكة ، والباب الثالث الذي يدخل فيه رسول الله (ص) ، وهو الباب الذي يلي باب آل عثمان ، وجعل طول الجدار بسطة ، وسقفه جريدا .
وفي سنة 624م، تحول الرسول الاعظم في صلاته الى الجهة الجنوبية حيث الكعبة الشريفة، وأقيمت سقيفة ( ظلة ) أخرى في هذه الجهة ، واصبح المسجد قريبا من مربع ، طول جدار القبلة فيه تسعون ذراعا ، ومنه الى جدار المؤخرة مائة ذراع، وكانت الظلة مكونة من ثلاثة صفوف ، فيها تسع سوار من جذوع النخل، ثم دفعت سنة التطور إلى الوصل ما بين السقيفتين الشمالية والجنوبية بسقيفتين جانبيتين، احداهما إلى اليمين ، والأخرى الى اليسار ، وفي الوسط صحن مكشوف .
مخطط مسجد المدينة
لقد حاول بعض المستشرقين ان يرسموا صورة لتخطيط مسجد المدينة في عهد الرسول (ص) ، فتصوره الاستاذ كريسويل بيتا من تسع حجر كل واحدة منها مربعة لا يتعدى ضلعها ثلاثة أمتار او ستة أذرع ، صفت الواحدة بجوار الأخرى، ولكل منها منها باب ينفذ إلى المسجد ، وينفذ اليابان الاولان منها إلى ظلة المسجد الشمالية، وتنفذ الابواب الأخرى الى رحبة المسجد، وقد أعدت في ركنها الشمالي الغربي ظلة صغيرة تعبر عن منزل أهل الصفة وجعلت الظلة فسحة طويلة عرضها عشرة أذرع، وطولها مائة ذراع ، يمتد فيها صفان من جذوع النخل، في كل صف ثمانية عشر جدعا .
وحاول الاستاذ الدكتور احمد فكري ، بعد ان بين الاخطاء في السنة السابعة من الهجرة - 628م - متابعا روايات المؤرخين ، فجعل بيت مخططات من سبقه من المستشرقين، أن يرسم مخططا لمسجد المدينة بعد الصلاة في المسجد ينقسم إلى ثلاثة اساكيب ، بكل صف منها تسعة من جذوع النخل ، مستندا إلى قول السمهودي انه كان بالمسجد، على عهد الرسول (ص) خمسة اساطين عن يسار المنبر ، واربعة عن يمينه ، وقد اصبح هذا النظام قاعدة في جميع المساجد فيما بعد، وأبقوا المحراب والمنبر في موضعهما ، كما احتفظوا بمواضع الأبواب الثلاثة التي كانت في المسجد ، ومازالت تعرف بأسمائها وهي : باب جبريل وسط الجدار الشرقي، وباب النساء في شمالي هذا الجدار ، يقابله باب الرحمة في الجدار الغربي.
اعادة بناء مسجد المدينة وتوسيعه
احتفظ مسجد المدينة بنظام تخطيطه العتيق عند تجديده او زيادة مساحته في عهد الخلفاء الراشدين، وعندما انتقل الرسول الاعظم (ص) لملاقاة ربه سنة 634م . دفن جدثه الطاهر في الحجرة التي كان يسكن فيها مع زوجته الطاهرة عائشة، ويقول السمهودي : ان الجذوع الأولى نخرت في ايام ابي بكر (رض) فجددها بجذوع جديدة وبالجريد . ثم ضاق المسجد بعد ذلك بالمصلين فجدده عمر بن الخطاب (رض) في سنة ١٧ هـ . وزاد فيه ، فجعله من الشرق إلى الغرب 120 ذراعا، وما بين جدار القبلة وجدار المؤخرة 130 ذراعا.
وفي سنة 29 هـ شكى الناس إلى عثمان بن عفان (رض) ضيق المسجد يوم الجمعة، فجدده وبنى جداره بالحجارة وجعل اعمدته من حجارة منقوشة وسقفه بالساج، ونقل اليه الحصباء من العتيق، وكان الخليفة يشرف على العمل بنفسه، واصبح طول المسجد 160 ذراعا وعرضه 130 ذراعا ، وجعل له ستة أبواب.
وجدد المسجد ايضا في زمن الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك ، حيث أمر عامله عمر بن عبد العزيز في الحجاز أن يعيد بناء مسجد المدينة و توسيعه، فأحسن بناءه، واستعمل الرخام للاعمدة، والفسيفساء في تزيين الجدران واصبحت مساحة المسجد 200 ذراع في الطول و 200 ذراع في عرضه . وروى ابن قدامة ان الوليد استعان بملك الروم لتجديد عمارة المسجد ، فبعت اليه بعض العمال الروميين وغيرهم، وأقيمت اربع مآذن في الاركان ، وادخل المحراب في بناء جدار القبلة، وأقام الدائر المخمس على الحجرة النبوية الشريفة .
المسجد في العهد العباسي
في زمن الخلافة العباسية قام الخليفة المهدي 775-785م بتوسيع المسجد، ووضعت الحدود النهائية التي استقر عليها الحرم الشريف . فأصبحت المساحة 200× 300 ذراع، كما ادخلت اضافات اخرى على المسجد في زمن المأمون، وقد وصف ابن جبير المسجد 1148م فقال :" ان المسجد مستطيل الشكل 196×126 خطوة، ويتجه محوره الطويل نحو القبلة ، وكانت الاروقة تحيط بالصحن من الجهات الاربعة . وكانت الاعمدة مكونة من قطع حجرية اسطوانية مثبتة بالرصاص ، والسقف يجلس عليها مباشرة، ووزرت الجدران بألواح من الرخام بألوان مختلفة . وفوقها زخرفة بالفسيفساء بشكل أشجار ذات ثمار متنوعة ، وللمسجد تسعة عشر بابا. يفتح منها اربعة في أغلب الاوقات ".
وصف ابن بطوطة للمسجد
وصف ابن بطوطة مسجد المدينة فقال : المسجد العظيم مستطيل ، تحف به من جهاته الاربع بلاطات دائرة به ، ووسطه صحن مفروش بالحصى والرمل ، ويدور بالمسجد الشريف شارع مبلط بالحجر المنحوت ، والروضة المقدسة في الجهة القبلية مما يلي الشرق من المسجد الكريم، وهناك يقف الناس للسلام مستقبلين الوجه الكريم، مستدبرين القبلة يسلمون وينصرفون يمينا الى وجه ابي بكر الصديق ، ورأس أبي بكر (رض) عند قدمي رسول الله (ص) ، ثم ينصرفون الى عمر بن الخطاب (رض) ، ورأس عمر عند كتفي أبي بكر ، وفي الجنوب من الروضة المقدسة حوض صغير مرخم في قبلته شكل محراب ، يقال انه كان بيت فاطمة بنت الرسول ، ويقال ايضا هو قبرها والله اعلم .
منبر المسجد ومئذنته في أيام الرسول (ص)
كان النبي الكريم يخطب واقفا على قطعة جذع نخلة ، ثم استبدل بها منبرا من الخشب بثلاث درجات . ولم يكن للمسجد الأول مئذنة ، فكان المؤذن بلال الحبشي يؤذن من اعلى سطح دار مجاورة أو من أعلى اسطوانة. جاء في كتاب وفاء الوفا : " كان في دار عبدالله بن عمر اسطوانة في قبلة المسجد يؤذن عليها بلال، يرقى اليها بأقتاب، والاسطوانة مربعة يقال لها المطمار" وهناك رواية تقول : " كان بلال يؤذن على منارة في دار حفصة ابنة عمر التي تلي المسجد ، وكان يرقى على اقتاب فيها ".
الروضة المقدسة :
يطلق على الحجرة النبوية الشريفة - الروضة المقدسة - تحيط بها اربعة اعمدة، وقد كتب على هذه الاعمدة اسماؤها ، فأحدها يدعى اسطوانة الوفود حيث كان النبي (ص) يستقبل الوافدين عليه ، واخر يدعى اسطوانة الحرس حيث كان يجلس من يتطوع لحراسته حين الحاجة . والثالثة اسطوانة أبي لباية وتعرف بالتوبة، والرابعة اسطوانة عائشة، وقد سمي هذا المكان بالروضة حيث جاء في الحديث الشريف " ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ".
وهناك عشرة صفوف من الاعمدة تمتد من باب السلام إلى الجدار الشرقي من المسجد بصورة موازية لجدار القبلة ، وعلى مسافة قريبة من الجدار الشرقي تقع الروضة المقدسة، وفيها قبر الرسول (ص) صاحبيه أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب (رض) وقبر فاطمة.
المسجد النبوي في عهد المماليك والعثمانيين
لقد حدث ان نزلت صاعقة على المسجد في عام 1483م ، واحترق قسم من البناء، قام على أثر ذلك السلطان قايتباى المملوكي ، سلطان مصر باعادة البناء، وبنى المحراب في المصلى النبوي ، كما بنى القبة الزرقاء على الحجرة النبوية الشريفة، وزاد ذراعين وربع الذراع في الجدار الشرقي من المسجد . ثم جدد السلطان قلاوون بناء المسجد بصورة كاملة ، وأضاف مئذنتين له ، ووضع سياجا من المعدن جميل النقش والكتابة حول الروضة المقدسة.
وفي العهد العثماني قام السلطان سليم الأول 1520-1566م بتجديد بناء المسجد ، وهذا هو المسجد الذي شاهده الرحالة الانكليزي بورتن سنة 1572 ووصفه في كتابه . وكان للمسجد ثلاث مآذن ، اثنتان في طرفي الضلع الجنوبي ، والثالثة في الزاوية الجنوبية الشرقية. وفي زمن السلطان عبد المجيد حصل خراب في عمارة المسجد وخاصة سقوفه ، فأمر السلطان بتعميره وتوسيعه، وكان البناء الجديد بالحجر الاحمر المحلي ، ومنه صنعت الاعمدة ايضا ، أما الرخام فكان مستوردا من الخارج . وقد استبدل بالسقوف الخشبية قبابا عالية بنيت بالحجر وجعل للمسجد خمسة ابواب هي : باب السلام وباب جبريل وباب الرحمة وباب النساء والباب المجيدي، واضاف الى مؤخرة المسجد كتاتيب لتعليم القرآن الكريم ، وزاد في مساحة المسجد خمسة اذرع من الناحية الشرقية من المئذنة الرئيسة الى ما يلى باب جبريل ، وقد بلغت المساحة 1293 مترا مربعا ، وابقى المآذن على حالها، وهذه الماذن الأربع التشكيلية الرئيسية ، ومنارة باب السلام ، والسنجارية، ومنارة باب الرحمة.
التعمير والتوسيع في المسجد في العهد السعودي :
بوشر بتعمير المسجد وتوسيعه سنة 1952، وقد تم التجديد في خمس سنوات، وكان البناء فنيا متقنا درست تفاصیله دراسة مفصلة ، ولغرض توسيع المساحة هدمت ابنية ودور كثيرة كانت تحيط بالمسجد ، وأضيفت مساحاتها الى مساحة المسجد والى الطريق والساحات المحيطة بالمسجد .
وأضيفت مساحاتها الى مساحة المسجد والى الطريق والساحات المحيطة بالمسجد، فبلغت المساحة الكلية الآن 16327 مترا مربعا ، وصار طول الجدار الغربي 128 مترا، ومثله الجدار الشرقي، وبلغ طول الجدار الشمالي 91 مترا ، وعدد الأعمدة في داخل المسجد 706 اعمدة ما بين مربع ومستدير ، وبلغ ارتفاع المتدنتين الجديدتين 70 مترا ، وصار منظر المسجد من الداخل والخارج رائعا لاتساعه وكثرة اعمدته وجمال زخرفته وزینته . وقد استعمل الرخام في وزرات الجدران .
الخلاصة
لم يحظ أي مسجد في البلاد الإسلامية يمثل ما حظي به المسجد النبوي في المدينة المنورة من اهتمام المؤرخين والكتاب، فمن المؤلفين الاقدمين محمد بن الحسن بن زبالة الذي ألف سنة ٨١٤م كتابا في تاريخ المدينة وتاريخ مسجدها ، وبعده يحيى بن جعفر العبيدي سنة ٨٩٠م ألف كتابا عن المدينة ايضا ، وقد قرأ السمهودي مؤلفيهما ونقل معظم ما جاء بهما عن مسجد الرسول في كتابه وفاء الوفا باخبار دار المصطفى . كما وصلتنا معلومات كثيرة عن المسجد النبوي نقلها لنا ابن سعد والبلاذري واليعقوبي والدينوري وابن رسته والطبري وابن عبد ربه .
ومن المؤسف ان نجد بعض المستشرقين المتعصبين مثل جيتاني وكريسول يزعمان ان المسجد الذي بناه الرسول الاعظم في المدينة لم يكن معدا ليكون مسجدا بل كان منزلا لسكنى زوجاته، وان المسلمين كانوا يجتمعون في فناء هذا المسجد ، وهذا خلاف الواقع وما جاء في المصادر التاريخية المار ذكرها ، والتي تؤكد جميعها بان بناء هذا المسجد حقيقة مؤكدة ، وان مساكن زوجات الرسول (ص) كانت قائمة بذاتها بجوار المسجد وليست جزءا منه ، وانها بقيت على هذا الوضع حتى سنة 87 هـ . حيث ادمجت في بناء المسجد.
المراجع :
ابن هشام : السيرة النبوية
ابن سعد : الطبقات الكبير
احمد فكري : المقدمة - مساجد القاهرة ومدارسها
السمهودي - وفاء الوفا في اخبار دار المصطفى